الثقافة الصينية تغزو القلوب قبل العقول أحيانا
الثقافة الصينية تغزو القلوب قبل العقول أحيانا
* السينما الصينية ملتقى رواد الخيالة في العواصم العربية
* الكتاب الصيني يزحف ببطئ نحو المراكز العربية
عندما عُرض فيلم المخرج الصيني بنغ تشن، "المشي إلى المدرسة" المأخوذ عن قصة واقعية جرت أحداثها في إحدىمناطق الصين، لم يكن الحدث الفريد من نوعه في العالم العربي. الفيلم الذي يتناول قصة أسرة فقيرة تسكن في منطقة جبلية نائية، الأمر الذي يجبر التلاميذ على الانزلاق من فوق النهر عبر سلك معدني للوصول إلى الضفة الأخرى حيث المدرسة، وتفقد الأسرة ابنتها بسبب هذه الممارسة الخطيرة، لم ينقل قصة إنسانية فحسب، وإنما بين أيضا كيف تنقل الصين تجاربها للشعوب الأخرى.
حسب أحداث الفيلم، تتدخل الحكومة الصينية بسرعة لإنشاء جسر فوق النهر، وهو نفس الجسر الذي تقوم به السينما في نقل الثقافة بين الشعوب. لم يكن فيلم "المشي إلى المدرسة" الفيلم الأول الذي عُرض في عاصمة عربية، فسبقته عشرات العروض الأخرى، وتلاه العديد، منها "الأزقة"، و"ماي ماي تي في 2008"، و"مفتون للأبد"، و"الجلد المرسوم". يأتي هذا النشاط في إطار التعاون والتبادل الثقافي بين الصين والبلدان العربية، من أجل تعزيز أواصر الصداقة بين الشعبين الصيني والعربي. فالسينما فن مفضل في سوريا، وكذلك في القاهرة، ودبي ولبنان والمغرب، مما يعطي الأفلام الصينية التي تعرض في السينما ومراكزها الثقافية زخما خاصا.
تعبر الأفلام والكتب وغيرها من الأنشطة الثقافية عن حضارة الصين وتراثها الغني، وتبرز تقاليد وعادات وثقافة الشعب الصيني،حسبما ذكر محمد الأحمد، المدير العام للمؤسسة العامة للسينما في سوريا. قال الأحمد :"النجاحات التي حققتها السينما الصينية في المهرجانات السينمائية الدولية، مثل كان وبرلين والبندقية، يرجع إلى التميز السينمائي الصيني وما تزخر به الصين من حضارة وتراث وثقافة أصيلة. وقد أسهم هذا التنوع الثقافي الهائل في تطوير الفنون."
الاحتفاء بالثقافة الصينية، ظاهرة متشابهة في العديد من العواصم العربية، فلطالما أقبل الجمهور العربي على معارض الكتب والتراث الشعبي الذي تقام له احتفاليات كبرى. فالعاصمة المصرية شهدت أجواء احتفالية كرنفالية مبهجة على أنغام الموسيقى الصينية المميزة في "مهرجان الربيع الصيني" احتفالا برأس السنة الصينية القمرية الجديدة، نظمت بعد احتفالات أخرى لتقديم أكلات صينية، وألعاب أكروباتية، وعرض لفن الشاي الصيني، والطب الصيني وتعليم الشباب والأطفال الخط الصيني.
تعددت عروض الأزياء التي تمثل مناطق صينية مختلفة، بما أطلع الشباب العربي على طقوس احتفالات الصين بأعياد الربيع الصيني التي تعد أهم الأعياد الصينية وتمتد جذوره إلى التقويم الصيني الذي أتبع قبل ألفي عام، و صار جزءاً حياً من التقاليد الثقافية الصينية وملجأ روحانياً يتعلق به كل الصينيين. وبينما يحرص عدد كبير من المصريين على حضور المهرجانات الصينية، وأكل الوجبات الصينية المشهورة، نجد شابة صينية تعشق عبد الحليم حافظ وتحب "المحشي" و"المسقعة" وتقرأ روايات نجيب محفوظ ويوسف إدريس. جاءت الشابة الصينية إلى مصر وعمرها عشر سنوات، في إطار اتفاقات التبادل الثقافي بين الصين ومصر، ودرست في مدارس مصرية وحصلت على رسالة الماجستير والدكتوراه في الأدب والفنون العربية من الصين. بهذه الصفات عرفنا المستشارة الثقافية للسفارة الصينية في مصر، مديرة المركز الثقافي الصيني بالقاهرة تشين دونغ يون، التي أكدت أن الروابط التاريخية بين مصر والصين عميقة وممتدة منذ سنوات طويلة. قالت د. تشين: "نحن فخورون جداً بإقامة المهرجانات الثقافية في كافة العواصم العربية، وهنا في مصر بمقر المركز الثقافي ودار الأوبرا المصرية وفي ساقية الصاوي وحديقة الأزهر، إلى جانب الأيام الثقافية الصينية التي تقام في الجامعات المصرية كجامعة القاهرة وجامعة طنطا وعين شمس و6 أكتوبر، والمعارض الثقافية في بعض النوادي الكبرى ومكتبة المعادي."
وقالت د. شين: "أشعر بسعادة غامرة لشعور المصريين بحب متبادل مع الثقافة الصينية. عادة ما تقدم الكتب الصينية التي تعرض في المحافل الثقافية بالعواصم العربية، مثل التي تمت مؤخرا في الجزائر، صورة بانورامية للصين." هناك عدد من الكتب التي تتحدث عن المناطق التراثية في الصين مثل؛"المجتمع الصيني"، "الفن التقليدي الصيني"، "المعمار الصيني القديم"، "جغرافية الصين "، "دراسة اللغة الصينية في مواطنها"، وتراجم عربية لأعمال صينية مثل ترجمة مسرحية "تشاي ون جي". وعرضت الصين في المحافل العربية عددا من الكتب باللغة الصينية وبعض الكتب المترجمة عن الصينية من بينها : كتاب "أيامي في الصين" والكتاب يتناول التجربة الحياتية لمبعوث فلسطين في الصين السفير مصطفى السفاريني وهي تجربة حياة امتدت نحو أربعين عاما عاشها في الصين.
من الكتب المترجمة عن الصينية كتاب "الشخصيات البارزة في الصين"، ويتضمن دراسة وافية لعشر قوميات مسلمة في الصين من أصل 56 قومية صينية. يوضح الكتاب الإسهام الحضاري للقوميات المسلمة مع أبناء القوميات الأخرى في خلق الوطن الأم وفي مجرى تاريخ طويل برز فيه عدد لا يحصى من الشخصيات العظيمة الإسلامية التي أثرت الفكر الإسلامي الصيني، أعده وقام بتعريبه محمود يوسف لي هوا ين وآخرون. ومن بين الشخصيات الإسلامية الصينية: السياسي شمس الدين، الرسام والشاعر الريفي قاو كة قونغ، الفلكي المسلم جمال الدين، المعماري المسلم ختيار الدين وإسهاماته في بناء مدينة "دادو" عاصمة أسرة يوان، محمود الكاشغري وقاموس اللغة التركية، الشاعر المسلم يوسف خاص حاجب وغيرهم من الشخصيات الإسلامية الهامة في التاريخ الصيني.
ومن الكتب الهامة التي تتناول الرياضات التقليدية الصينية هناك كتاب عن رياضة "الووشو" وهي ملاكمة الدفع بالأيدي التي ابتكرت اقتداء بحركات الثعبان ثم أضيفت إليها حركات مقلدة لبعض الحيوانات، وتمتاز هذة الأساليب بكثرة تغيير حركات الراحتين. أما أساليب الووشو التي نبعت من معبد شاولين فهي الأكثر شهرة في الصين والعالم أيضاً، وهذه السلسلة من الكتب الرياضية تمتاز بتوضيح استخدامات الووشو عن طريق وصف فنون الووشو حركة بحركة، كما أن هناك تعريفا بفائدة كل حركة.
من الكتب المنتشرة حاليا في الأسواق العربية، كتاب عن العلاج الطبيعي الصيني صادر باللغة العربية عن دار تشاوهوا للنشر في بكين بعنوان "التدليك لعلاج الأمراض". والتدليك الصيني له تاريخ عريق وذو فاعليات في العلاج والوقاية من الأمراض. تضم اللوحات الموجودة في الكتاب: "تدليك اليد" "تدليك القدم" "التدليك الصحي" "التدليك لعلاج الأمراض" . وتحتوي كل لوحة من هذه اللوحات على نقاط الوخز المستخدمة وطرق التدليك وبرامج التدريب وغير ذلك.
ويفسر الكتاب أهمية التدليك الصيني التقليدي باعتبار أن القنوات الحيوية الرئيسية والفرعية التي تنتشر في كافة أنحاء الجسم وتربط الأحشاء الداخلية والأطراف الأربعة والمنافذ السبعة في رأس الإنسان والشعر والعضلات والعظم، وتشكل الطاقة الحيوية والدم للإنسان خلال دوراتها في القنوات الحيوية هيكلاً عضويا كاملا. ويشير الكتاب إلى أن التدليك لسطح الجسم يعمل على تحفيز القنوات الحيوية وتنشيط الطاقة الحيوية والدم ، مما يؤدي دورا علاجيا للأمراض وتقوية الجسم .
التقارب الثقافي بين العرب والصين يدفع العديد من الشباب إلى الحلم بالسفر إلى الصين للعمل والمعرفة. ترى رغدة فتحي محمد، التي تدرس الماجستير في اللغة الصينية والأدب الصيني بجامعة عين شمس المصرية، أن فرص العمل باللغة الصينية أصبحت مع تغير الأوضاع في المنطقة ضعيفة جداً. قالت: "نحن نعمل في مجال الترجمة الحرة من اللغة الصينية إلي اللغة العربية، وترجمت العديد من نماذج الأدب الصيني من أشهرها : "العاصفة الرعدية" للكاتب المشهور تي يو. هناك إقبال كبير على قسم اللغة الصينية، فمنذ سنوات قليلة كان عدد طلاب القسم لا يتجاوز 50 طالبا أما الأن فعدد الطلاب يتجاوز 300 طالب." أعربت رغدة عن أملها في زيادة عدد البعثات الدراسية بين مصر والصين وفتح نوافذ جديدة للعمل بالترجمة من اللغة الصينية. أما إيمان مجدي، خريجة كلية الألسن قسم اللغة الصينية دفعة 2009 وتدرس حالياً بالمركز الثقافي الصيني بالقاهرة، فهي تساعد في المهرجانات الثقافية بتقديم عرض الشاي التقليدي الصيني للرواد. وتشعر إيمان بأن هناك سمات كثيرة مشتركة بين الشعبين المصري والصيني، فتاريخهما ممتد منذ آلاف السنين، ويتصفان بالطيبة وخفة الروح وحب مساعدة الآخرين، وهو الأمر الذي دفعها إلى المشاركة في المهرجانات التي تنظمها الصين في مصر منذ ثلاث سنوات، وخاصة عرض الووشو.
وترى نسمة عبد الباقي وآية عبد الله، خريجتا كلية الألسن دفعة 2009 أيضاً، في تعلم اللغة الصينية بداية لشق الطريق نحو المستقبل بمقاييس مختلفة. قالت نسمة: "معظم طلبة كلية الألسن يحلمون بتعلم اللغة الفرنسية أو الإنجليزية وقطاع كبير منهم يرى أن هاتين اللغتين هما البوابة الذهبية للعمل، سواء في مجال السياحة أو الترجمة وهذه فكرة خاطئة، فاللغة الصينية بالنسبة لنا تعد لغة جديدة فهناك متعة في دراستها ولا نتفق مع القول بأن نطاق العمل باللغة الصينية محدود، بل ينتشر في مجالات عديدة مثل السياحة والتجارة وأجهزة الكمبيوتر، وكل هذا يتطلب بالقطع مترجمين من وإلى اللغة الصينية لتسهيل هذه الأعمال."
يحرص الشباب العربي على ترجمة كافة الأخبار التي تهدف لنشر اللغة الصينية، ومنها المتعلقة بنشأة المسرح الصيني منذ أن كان حلقات يشاهدها الجمهور حتى أصبح المسرح الكلاسيكي المتعارف عليه الآن. وهناك مسرحيات تراثية هامة مثل "تشاقوان" وتعني المقهى و"تشيتشان" أي موقف الأتوبيس. ويرى عمر شكري، المعيد بكلية الهندسة قسم طيران بجامعة القاهرة، أن مشاركته في المهرجانات الثقافية الصينية نوع من الحرص على التواجد لأنه يؤمن بأن المستقبل في مجال الطيران سيكون صينيا. قال عمر شكري: "الصين في السنوات الأخيرة استطاعت أن ترسخ أقدامها في مجال الطيران بشكل مذهل، ويكفي أنها أطلقت أول رحلة فضاء صينية وأتوقع بعد خمس سنوات أن تصبح الصين من الدول المتقدمة الكبرى في مجال الطيران مثل الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. إن أوجه التشابة بين مصر والصين كثيرة جداً ويجب الاستفادة منها لصالح البلدين، فكلاهما لديه وفرة في الأيدي العاملة والعقول والأجر المنخفض بالقياس للدول الصناعية الأخرى، وعلى الرغم من أن الباحثين المصريين يذهبون إلى الولايات المتحدة الأمريكية لاستكمال دراساتهم العليا إلا أن عددا كبيرا منهم لا يوفق في العمل في مجال تخصصه، لأن الولايات المتحدة الأمريكية لديها تحفظ شديد في تشغيل غير الأمريكيين في صناعة الطيران، بعكس الصين التي لديها شراكة مع الهند وباكستان وكثير من دول العالم في هذا المجال الحيوي." وتساءل عمر: "لماذا لا ننضم إلى قائمة الدول التي تتعاون معها الصين في مجال الطيران وتكون بعثاتنا الدراسية موجهة إلى الصين بدلاً من الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول الأوربية؟"
مدام لوزي، وهي سيدة إيطالية المولد تعيش في الزمالك منذ سنوات طويلة، علي الرغم من كبر سنها وبرودة الجو تحرص هي وصديقتها المصرية مدام نادية الجمال على حضور المهرجان الثقافي الصيني الذي يتكرر في مركز ساقية الصاوي الثقافي. قالت السيدة لوزي: "تشعرنا هذه المهرجانات بحميمية الصينيين وبشاشتهم في الاستقبال." وعن أهم ما لفت نظرهما في المهرجانات الصينية، اتفقت السيدتان على أن الموسيقى الصينية شديدة الخصوصية والتأثير على النفس، بالإضافة إلى المشغولات الصينية اليدوية التي يحرصان على شراء العديد منها لإهدائها للأصدقاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق